إدغار موران : "يجب أن نتعلم الإبحار داخل محيط من اللايقينيات"
حاوره هيجو ألبنديا
ترجمة يوسف اسحيردة
ربط المعارف من أجل التفكير في التعقيد البشري: إنه البرنامج الذي وضعه إدغار موران نصب عينيه. في هذا الحوار الذي يأتي أياما بعد احتفاله بمئويته، يكشف هذا المعمر الخارج عن المألوف لمجلتنا عن مساره، معاركه، مخاوفه وآماله بخصوص المستقبل.
المجلة: احتفلتم للتو بأعوامكم المِئة، وقد نشرتم ما يعادلها كُتبا. ما هي الصورة التي تُحبون أن يُحتفظ بها عنكم؟
إدغار موران: حظيت بعدة بطاقات تعريفية على امتداد وجودي. أنثروبولوجي أولا. أنا كذلك، لكن ليس بالمعنى الذي أخذته هذه الكلمة مؤخرا. لقد أصبحت محصورة للغاية: فقد أصبحت في القرن العشرين تهم فقط دراسة المجتمعات التي بدون كتابة، التي سُميت بالأصلية. في حين أنها في القرن التاسع عشر، خاصة في ألمانيا، كانت تُشير إلى تخصص يضم مختلف المعارف حول الانسان. أرى نفسي مثل هذا النوع من الأنثروبولوجيين. من جهة أخرى، مسألة إنتاج المعارف تُوجد في قلب عملي. باختصار، غايتي هي التشابك بين الابستمولوجيا (دراسة المعرفة) والأنثروبولوجيا، أي معرفة البشر.
أردت دائما أن أُجيب عن سؤال كانط: ما هو الانسان؟ من أجل بلوغ هذه الغاية يجب أن أجيب عن سؤال آخر: ما الذي يُمكن أن أعرفه؟ إصلاح المعرفة والفكر بالنسبة لي رهان أولي. النقد الذاتي هو نظافة نفسية أساسية. مكان المذهب الذي يُجيب عن كل شيء، أُفَضّْل التركيب الذي يُسائِل كل شيء. هذه الفكرة التي أُحب أن يُحتفظ بها عني، تُوجد صياغتها في مؤلفي، "المنهج"، خاصة في المجلد الثالث المُعنون ب " معرفة المعرفة" (1986) والمجلد الرابع المُعنون ب "الأفكار. مقامها، حياتها، عاداتها، تنظيمها" (1991).
مؤخرا يتم تذكيري ببطاقتي السيسيولوجية. غريب، يُحتفظ بهذا الجانب من أعمالي في حين أن تصوري السيسيولوجي كان جد مُهمش ومُنتقدٍ في وقته. بالنسبة لي، لا يُشكل ذلك نواة مغامرتي الفكرية التي بلغت ذروتها مع كتابة "المنهج" (1977-2004). لست أيضا فيلسوفا بالمعنى الذي نسمعه اليوم. نوعا ما، أنا فيلسوف وحشي: بالنسبة لي، الفلسفة هي الانعكاسية، هي النظرة الثانية، التي نجدها عند كل الفلاسفة الكبار. لقد انخرطت في هذا النهج من خلال بحثي عن إلقاء نظرة مُغايرة على المعارف التي يُنتجها أقراني. فلسفتي ليست أكاديمية.
أُصَنِّفُ نفسي أيضا كإنسانوي. كل مفاهيمي هي أُنثرو-بيو-اقتصادو-سياسية. هي تدخل في إطار الفكر المُركب لكن أيضا في إطار ما دعوته بالإنسانوية المُنبعثة، التي أعرضها في كتابي "لنُغير الطريق" (2020). أن يكون المرء إنسانويا، ليس معناه فقط أن يعرف أننا متشابهون ومُختلفون، ليس معناه فقط أن يُريد النجاة من الكوارث والطموح إلى مستقل أفضل. ولكن أيضا أن يحس في أعماق ذاته بأن كل واحد مِنَّا ينتمي إلى جماعة بشرية ويمكن أن يكون فاعلا.
المجلة: تدعون منذ زمن إلى ترابط المعارف حول الإنسان. هل في نظركم تطورت العلوم في هذا الاتجاه؟
إدغار موران: في سنة 1951، لم يتعرض أول أهم كُتبي، "الإنسان والموت"، الذي دشنت به نمط تفكيري العابر للتخصصات، إلى أي انتقاد من طرف المتخصصين لأنه لم يكن أحد، حتى ذلك الوقت، قد تعامل مع السلوكات البشرية أمام الموت من خلال الربط بين علم النفس وعلم الاجتماع. عندما اشتغلت على هذا الكتاب، قمت تلقائيا باشراك الدين، التحليل النفسي، البيولوجيا...إرث الفلسفة الديالكتيكية ساعدني كثيرا في ذلك الوقت، لأنه سمح لي بمواجهة التناقضات الظاهرة لمختلف مجالات المعرفة. هذا ما أدعوه بالفكر المُركب.
بعد ذلك، في المقابل، عندما بدأت تأليف "المنهج"، طالما نُظر إليَّ بشكل سيء من طرف أصحاب هذا الميدان أو ذاك من ميادين المعرفة. لقد تمت إدانتي باعتباري غير كفئِ ومُعمِّمٍ، في حين كنت أُعيد تفسير وربط المعارف المُشتتة وصياغة طريقة من اجل معالجة التشابكات. هذا الأمر يُوضح الاتجاه الذي تطور فيه إنتاج العلوم. مع الأسف، في نفس الوقت الذي كانت فيه هناك محاولات من أجل تحسين التخصص المُتداخل، عرف النزوع نحو التخصص المُفرط تطورا. كل تخصص أسفر عن تخصصات فرعية، مجالات البحث أصبحت أكثر دقة.
يظل التخصص المتداخل سطحيا اليوم. التخصصات تنغلق على نفسها. ولكن، في رأيي، كل جواب على مشكل مهم، يظل رهين ربط المعارف المُشتتة. فالظواهر مترابطة فيما بينها عن طريق عدد لا حصرة له من التفاعلات وردود الفعل. تجزيئ المعارف يمنع من رؤية هذه الروابط: معرفة كُلٍّ تَرْتَدُّ إلى معرفة عناصره المُكوِّنة. أيضا لا يمكن عزل كائن بشري عن سياقه، فهو مُتوقف على وسطه. حُسن معرفة الكائن البشري يستلزم ربط العلوم الاجتماعية والبيولوجيا، وحتى الكسمولوجيا – بما أننا نَتَكَوَّن من مادة فزيائية. بالنسبة لي، الإنسان مُحدد بثلاثة أبعاد مُرتبطة ارتباطًا وثيقا: النوع، المجتمع والفرد. يجب الالمام بها مُجتمعة!حجب التشابكات يقود إلى الغلط.
المجلة: الفكر المُركب هو أيضا الطابع غير المؤكد للمعرفة العلمية. كوفيد جعل اللايقين في قلب المجتمع، أي نظرة تُلقون على هذه الازمة؟
إدغار موران: جائحة كوفيد تُثير أزمة كوكبية متعددة الأبعاد. إنها تُشكل عاملا جديدا للهشاشة واللايقين والقلق. لقد أحصينا الموتى كل يوم. حاليا، الأفكار المسيطرة تُحاول إدراج مستقبل البشرية داخل حدود واضحة، كل هذا مع شطب اللايقينيات. ومع ذلك فأزمة كوفيد جعلت تقلبات الحياة تطفو على السطح. وذلك ما يُزعزعنا. ما السبيل إلى العيش في ظل توقعات لا تتعدى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع؟ ما السبيل إلى العيش في ظل تخوف من حجر مُفاجئ؟ هل يجب توقع تحسن أو، على العكس من ذلك، توقع تدهور على المدى القصير؟
أمضيت نصف قرن من حياتي في صياغة طريقٍ في المجلدات الستة ل "المنهج". لكن ضرورة إحداث تغيير لم تُستوعب من طرف السياسيين والاقتصاديين والتقنوقراطيين والمُقاولين. ماذا نجد في مواجهة رأسمالية مُهيمنة ازدادت قُوتها خلال الأزمة؟ ضمائر مشتتة، انتفاضات مقموعة، جمعيات للتضامن، القليل من الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ولكن ولا قوة سياسية منسجمة تمتلك فِكرا-مُرشدا.
الفكر المُركب يُجابه اللايقين باستمرار. عندما سُئلت حول موضوع الجائحة، حاولت الإجابة على مخاوف، أعدت التأكيد على أن المغامرة البشرية، سواء كانت فردية أو جماعية، هي غير مؤكدة وخَطِرة. بالمناسبة، الطابع الكوكبي لهذه الازمة يُقوي فكرة وحدة المصير، التي لسنا على وعي بها دائما ولكنها جد حقيقية. نحن أيضا في حاجة كبيرة إلى الأمل، إنها خاصية بشرية، خاصة في أوقات غياب الاستقرار. عندما كُنت في المُقاومة، كُنَّا نعتقد أن عالما جديدا سيولد من رحم كل هذه الفظائع. أوهام، ربما، ولكنها تتجدد باستمرار عند البشر، ومعها أملنا في مستقبل أفضل.
المجلة: مُقاوم، شيوعي، مُناوئ لستالين، مُدافع عن القضية الفلسطينية، أيكولوجي. لقد تبنيتم بشكل تدريجي عدة قضايا سياسية. بشكل رَجْعِي، أي نظرة تُلقون على مساركم السياسي؟
إدغار موران: السياسة بزغت في ذهني في سن الثالثة عشرة، بعد المظاهرات المُناوئة للبرلمان بتاريخ 6 أبريل ،1934. رأيت خلالها رفاقي في الدراسة يتعارضون بعنف. بما أنني لم أكن أملك أي قناعة مُحددة سلفا حول الموضوع، فقد تبنيت موقفا شكوكيا من خلال رصد الانقسامات. بعد ذلك، قُمت بتكوين ثقافتي الخاصة. وهي تشمل من ناحية التقليد الفرنسي الإنسانوي، من مونتاني حتى رومان رولاند، ومن ناحية أخرى الإنسانوية الروسية مُمثلة في تولستوي وبالأخص دوستيوفسكي.
حياتي تظل مطبوعة بنوع من الاستمرارية. مرحلتي الشيوعية كانت عبارة عن قوس دام ستة سنوات بعد مراهقة جد مُنفتحة ونقدية. فقد انخرطت في أيديولوجية قتالية، نوع من الإيمان، من ديانة الخلاص الأرضي. كان ذلك في تولوز، بعد اجتياح الاتحاد السوفيتي من طرف الفيرماخت سنة 1941، حيث انتقلتُ من مُناوئ لستالين إلى شيوعي. من مُسالم، أصبحت مُقَاوِمًا.
يُمكنني القول أن المقاومة التي نَهَلَت في الآن ذاته من الإيمان الشيوعي والحركة الديغولية، قد شكلت فرصة من أجل العيش بكثافة.وإن كُنت أتأسف كُليا لِعماي بخصوص طبيعة الشيوعية السوفياتية، فلا يُمكنني القول أن مرحلتي الشيوعية كانت سوء حظ، بما أنها منحتني الفرصة لأفهم الشمولية لاحقا.
بعد ذلك، رفقة أصدقائي الفلاسفة كلود لوفور وكورنيليوس كاستورياديس، خَطَوْنَا نحو ما وراءٍ للماركسية. تَعلمت أنه مهما حاولنا الاعتقاد بأننا مُسلحين بيقينيات وبرامج، يجب أن نتعلم أن كل حياة هي عبارة عن إبحار داخل محيط من اللايقينيات، تتخلله بعض الجزر والأرخبيلات من أجل التَّزَوُّد. أُريد الإشارة إلى أن أحد أكبر دروسي في الحياة هو التوقف عن الاعتقاد في دوام الحاضر واستمرارية الصيرورة وقابلية المستقبل للتنبؤ.
منذ مُغادرتي للحزب الشيوعي وأنا مُستقل عن كل منطق تحزبي. أنا تلميذ دائم، أدمج معارف جديدة داخل فكر أكثر فأكثر تركيبا، لكنه مُنسجم. الفكر المُركب هو فكر استيعابي يُضيف الأفكار. سنة 1969-1970، عندما كُنت أغوص سعيدا في عالم الهيبي بكاليفورنيا، اكتشفت المسألة الأيكولوجية. لم أجد أي مشكلة في إدماجها في تصوري للكائن البشري. فطالما اعتبرت أن نوعنا مُرتبط ببيئته بشكل لا انفصام له. هذه المسألة تُوجد اليوم في قلب الاهتمامات. مستقبل البشرية هو الرهان السياسي الأهم في عصرنا. أعتقد أن هناك طريقا آخر ممكنا بعيدا عن النيولبرالية من أجل دمج أفضل للأيكولوجيا. الآفاق المُمَثَّلة في التكنولوجيا والإنسانية الانتقالية لا تكفي لوحدها من أجل الإجابة عن التساؤلات. كائن بشري مُعزز سيكون دائما في حاجة لعلاقات تكافل وأخوة.
المجلة: هل أنتم متشائمون بخصوص مستقبل البشرية؟
إدغار موران : سأصف نفسي بالأحرى كحذر، بل وحتى كقَلِق، لكن ليس كمتشائم. الفكر المُركب يذهب أبعد من التضاد بين التشاؤم والتفاؤل. أعتقد أن التيارات المسيطرة، تلك التي نسمعها في الإعلام أو نقرؤها في الإصدارات الأخيرة، تميل نحو التشاؤم. لقد عاينت انقراض التكافل من فترة مُراهقتي في سنوات ما بعد الحرب. العلاقات الودية بين الجيران، النقاشات في الحانات، في الميترو...تراجعت إلى أقصى الحدود.
تردي جودة الحياة ناتج عن سيطرة العقلية الكمية في نظام وسلوك مجتمعنا، حيث نحسب ونقيس كل ما هو إنساني. فمن أجل التسيير نقوم بتقييم الناتج الداخلي الخام والإحصاءات والاستطلاعات. ذلك يصدنا عن رؤية ما هو فردي، ذاتي وعاطفي. عقل محض وجامد هو في نفس الوقت عقل لاإنساني وغير معقول. العيش فن صعب حيث أن كل ما هو عاطفي يجب مراقبته من طرف العقل – حتى لا ننقاد للوهم – ولكن حيث أن كل عقل يجب أن تُوجِّهه عاطفة. عالمنا التقنوقراطي يميل إلى نسيان ذلك.
ومع ذلك تظل إمكانية تغيير الطريق قائمة. الكثير من الاحتجاجات في الوقت الحالي، مثل حركة السترات الصفراء، تنطوي عند المشاركين فيها على حاجة إلى الاعتراف بهم في كامل طبيعتهم الإنسانية. أعتقد، في أعقاب ايفان إليتش، أن التكافل يُشكل عنصرا أساسيا لجودة الحياة، وطريقا خصبا للإنسانية. فهو يسمح بالإجابة بشكل يومي على حاجتنا إلى الاعتراف.
المجلة: كيف تنظرون إلى مُستقبلكم الخاص؟
إدغار موران: وجدت طريقي الخاص منذ سن الثامنة عشرة، من خلال عدم التوقف عن ملاحقة تساؤلات كانط الكُبرى. ما الذي يمكن أن أعرفه؟ ما الذي يجب أن أفعله؟ ما الذي هو مسموح لي بأن آمله؟ أَتَّبِعُ هذا الاتجاه لحد الآن، وبعمر المِئة، مُستقبلي هو الحياة على المدى القريب! عندما أُطالبُ بندوة أو حوار، أرفض الالتزام أبعد من أُسبوعين أو ثلاثة مُسبقا. لا مشاريع كُبرى لدي. ومع ذلك، أُواصل التفكير ومُحاولة الإجابة عن أسئلتي الكُبرى. اُدَوِّنُ ملاحظات، أكتب بعض الشذرات التي أنشرها أحيانا على تويتر، مازلت أُفكر في كتابة بعض الأفكار القصيرة على الورق...حاليا، مثلا، يُلهمني موضوع الأمة.
أنشطتي الفكرية ستتواصل بشكل طبيعي، لكنني لم أعد أُفكر في تأليف كتاب. "دروس قرن من الزمن" سيبقى هو كتابي الكبير الأخير. فيما يخص البقية، لا أؤمن بآخرة بعد الموت. بالنسبة لي، الروحانية تتجلى في تنمية مؤهلات الروح البشرية – ما أسميته بشاعرية الحياة.
إدغار موران : "يجب أن نتعلم الإبحار داخل محيط من اللايقينيات"