التربية الإسلامية والنظريات التربوية الحديثة
لقد عني الإسلام بتربية النشء عناية فاقت أحدث النظريات التربوية في العصر الحديث وذلك لأنها مع شمولها للنواحي الجسمية والعقلية والروحية والخلقية والدينية قامت على مبادئ مثالية في الدين والأخلاق مراعية النواحي الإنسانية والاجتماعية والتعاونية ولأن مبادئ التربية الحديثة التي عرفت في منتصف القرن العشرين لم تستطع الدول المتمدينة أن تنفذها كلها حتى اليوم بينما نجد الأمة الإسلامية في عصورها الذهبية قد حققتها وجنت ثمارها قبل أن تعرف التربية الحديثة ونظرياتها بمئات السنين ولقد تحقق من تلك المبادئ على يد التربية الإسلامية ما يأتي :
التربية الاستقلالية، الاعتماد على النفس في التعليم، الحرية في التعليم، ومراعاة الفروق الفردية بين الاطفال، ملاحظة الميول والاستعدادات، اختيار الذكاء، ومخاطبة الاطفال على قدر عقولهم، وحسن معاملتهم والرفق بهم، تشجيع الرحلات والأنشطة المختلفة، الاهتمام بالتربية الخلقية، والتربية الوجدانية.
وكل الأمم قديمها وحديثها تهدف من تربية نشئها إلى أن يقوم بما تعتبره ضروريا في تحقيق سعادتها فمنها ما تحصر التربية في العناية بالأجساد وتقويتها للصلاحية للحروب ومنها ما تحصرها في التربية الحربية والسياسية والقانونية ومعظم هذه الاتجاهات يقوم على المنهج العلمي المادي أما الأمة الإسلامية فإنها ترمي في تربية نشئها إلى تهيئته للقيام بعمل كل من الدنيا والآخرة وإلى إقامة مجتمع مثالي ومن هنا كان لها المنهج التربوي الخاص بها والذي يعمل على تحقيق الأغراض التالية :
أن تكون التربية الخلقية هي روح التربية الإسلامية بحيث يمكن تلخيص غرضها الأساسي في كلمة واحدة هي الفضيلة بمعنى أن يكون كل درس له عائد اخلاقي وسلوكي على الطفل وأن يراعي كل معلم قواعد الأخلاق الإسلامية ، باعتبارها المثل الأعلى للجميع حتى يربى الطفل تربية طاهرة مبنية على الإيمان وعلى ربطه بخالقه وعلى استمساكه بتعاليم الدين حتى يهذب خلقه وتربى روحه.
العناية بالدين والدنيا معا :
لان الاسلام لا يقصر أغراضه التربوية على الناحية الدينية فقط، ولا على تحقيق المصالح الدنيوية فحسب ، وإنما يجعلها تسع الأمرين معا لقوله تعالى ( وابتغ فيما ءآتك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا ). وقوله صلى الله عليه وسلم ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ).
العناية بالنواحي النفعية العامة
انطلاقا من مفهوم كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الولاة حين يقول (... أما بعد : فعلموا أولادكم السباحة والفروسية، ورووهم نا سار من المثل ، وما حسن من الشعر ).
دراسة العلم لذات العلم : لأن الإنسان راغب في الاطلاع بفطرته، ولذلك عني الفلاسفة الإسلام بدراسة كثير من العلوم والفنون والآداب؛ ليشبعوا ما لدى التلاميذ من ميل فطري إلى حب الاطلاع والمعرفة ، وليزداد اطلاعا وفهما يشعرة بلذة البحث.
التعليم المهني والفني :
لقد اهتمت التربية الإسلامية بتهيئة النشء لكسب رزقه في الحياة بالتدريب على بعض المهن والصناعات والفنون - تمشيا مع الميول والمواهب حتى يتم إتقانها. فهذا ابن سيناء - العالم الفيلسوف الطبيب المسلم - يقول في هذا المعنى : " إذا فرغ الصبي من تعلم القرآن، وحفظ أصول اللغة نظر عند ذلك إلى ما يراد أن تكون صناعته فيوجه إلى طريقة.... ".
هذه أغراض التربية الإسلامية - كما نقلناها عن سلفنا الصالح - كانت في الأصل خلقية لكنها لم تهمل إعداد النشء للحياة وكسب الرزق، ولم تنس تربية الجسم، والعقل والقلب والوجدان، والإرادة والذوق ، واليد واللسان والشخصية. ويتجلى ذلك واضحا في وصية هارون الرشيد لعلي بن الحسين ( الأحمر ) مؤدب ولده " المأمون " حين يقول له: - ( يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة. نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، اقرئه القران وعرفة الاخبار ، وروه الاشعار، وعلمة السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك الا في أوقاته، وخذه بتعظيم بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة الا وانت مغتم فيها فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفة، وقومة ما استطعت بالقرب والملاينه، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة).
كما يتجلى التوجيه التربوي الاسلامي في وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب أولادة وفيها : علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رعه، وأقلهم أدبا، وجنبهم الحشم، فإنهم لهم مفسدة واطعمهم اللحم يقووا، وعملهم الشعر يمجدوا، وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الما مصا، ولا يعبوه عبا، وإذا احتجت إلى أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في ستر، لا يعلم به أحد من الفاشية فيهونوا عليه.
فها نحن أولاء رأينا في وصية كل من هرون الرشيد، وعبد الملك بن مروان أن أن أغراض التربية شاملة للنواحي الدينية والأدبية والعلمية والخلقية، والاجتماعية، والصحية والسلوكية.
لقد أجمع المربون والمؤرخون على أن التربية الاسلامية ، كانت الأساس المتين للحضارة الإسلامية السابقة ، ولعل السر قي ذلك يرجع إلى أن منهجا قام على أصول تربوية لم تتوفر في المناهج التربوية القديمة والحديثة، وهذه الاصول يمكن أن نجملها فيما يأتي:
• أن المنهج الإسلامي يبدأ بغرس مبادئ التربية الدينية لربط النشء بخالقة، وغرس عقيدة التوحيد في قلبه، وزرع الإيمان بالله في أعماقة، لأن من لم يؤمن بربه يكفر بالقيم، ويعبث بالفضائل. ولا عجب فهو لا يخشى ربا ولا يخاف حسابا، ثم يعمل بعد ذلك على تزويد الناشئ بالقيم الروحية، وتدريبه عليها سلوكيا.
لقد كان الرسول الكريم يأمر المسلمين بتدريب أولادهم منذ طفولتهم على الصلاة، وأمرهم بها عند بلوغ السابعة، وأمر بضربهم على تركها عند بلوغ العشر، كما تقضي روح الاسلام بتدريب الاطفال على آداب الأكل، غرس عادات الفروسية والشجاعة والكرم، والتواضع والزهد والصدق والأمانه في نفوسهم حتى يتبتوا عليها.
• أن المنهج الإسلامي يعني بإعداظ المربي الصالح الذي يكون قدوة حسنة لمن يقوم بتربيتهم. فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : (إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة المنافق العليم ). قالوا : كيف يكون منافقا عليما؟. قال « عليم اللسان جاهل القلب والعمل ».
وهذا عمر بن عقبه يقول لمؤدب ولده " ليكن أول أصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بك. فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت..... " وصلاح المربي في منهج التربية الإسلامية يقتضي أن يتصف بالآتي :
الزهد بأن يبتغي بعملة وجه الله - وطهارة الجسد والجوارح بالبعد عن الآثام - وطهارة الروح بتجنب الكبر والرياء والحسد. لقوله صلى الله عليه وسلم « هلاك أمتي رجلان : عالم فاجر ، وعابد جاهل ، خير الخيار خيار العلماء ، وشر الأشرار شرار العلماء ».
• أن المنهج الإسلامي يهتم بمواصلة التوجيه، ومداومه الإرشاد والتقويم، لان التعليم يحتاج إلى التكرار حتى يثمر ويحقق غايته. فهذا لقمان النبي الحكيم كان يتعهد ابنه بالموعظة بين الحين والآخر.. وذلك ما نفهمه من جملة « وهو يعظه » في قوله تعالى « وإذ قال لقمان لأبنه وهو يعظه... » كذالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد صحابته بالموعظة حينا بعد حين.
• عدم اقتصار المنهج الإسلامي في تربية الطفل على السن المبكرة من حياته فقط ، وإنما يمتد الاهتمام به إلى ما قبل الولادة حين يأمر والده بتخير والدته ، وحين يشترط الكفاءة بينهما عند الزواج لقوله صلى الله عليه وسلم « تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس ».
• أن المنهج الإسلامي يقضي على الأنانية ، وحب الذات، بما يغرسه في نفوس النشء من حب الله والدين والامة والوطن والاسرة، ومن إيثار للمصلحه العامة على مصلحته الخاصه، ومن الاهتمام بأمر الدين ، فما استحق ان يولد من عاش لنفسه.
• أن المنهج الإسلامي يغرس الآداب الاجتماعية اقتداء بما فعلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع ربيبه عمر بن أبي سلمة - كما يروي عن نفسه فيقول : كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : « يا غلام ، سم الله تعالى، وكل بيمينك ، وكل مما يليك » فما زالت تلك طعمتي وحالة أكلي.