هل معرفة الذات تتوقف على وجود الغير أم وجود الوعي
مقالة هل معرفة الذات تتوقف على وجود الغير أم وجود الوعي؟
هل معرفة الذات تكمن فيما يراه الغير فينا أم فيما نراه في أنفسنا؟
طرح المشكلة : يتميز الإنسان بكونه كائن حي فضوليا يطمح دائما إلى إدراك الحقيقة ومعرفة العالم الخارجي ، إلا أن هذا لم يثني عليه إقباله إلى معرفة ذاته ، وباعتباره كائنا عاقلا واعيا لأحواله الشعورية أصبح الاعتقاد بأن معرفة الذات تتوقف على الشعور بها ، وفي مقابل ذلك نجد أن صفة المدنية التي يتصف بها الإنسان تفرض وجود الآخر والغير حتى يدرك ذاته المتميزة عن هذا الغير وهو ما يوحي بضرورة وجود الغير لإدراك الذات هذا ما أدى إلى وجود اختلاف الفلاسفة حول معلاقة الذات فمنهم من يرى أن معرفة الذات تتوقف على وجود الغير ومنهم من يرى أن معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي فإلى أي حد يصدق هذا الاعتقاد ؟ و هل معرفة الذات تكمن فيما يراه الغير فينا أم فيما نراه في أنفسنا ؟ أو بعبارة أخرى هل معرفة الذات تتوقف على وجود الغير أم وجود الوعي؟
وجودي يحصل بينه وبين الآخرين هو الذي يمكنه من إدراك نفسه وباختلافه عن الآخرين ، هذا الغير الذي يواجهنا ويصدر أحكاما حول ذواتنا هو الذي يدفعنا إلى التفكير في أنفسنا ، وهنا يقول الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر :" وجود الآخر شرط. فبالقياس ندرك نقائصنا وعيوبنا ومحاسننا ، وأحسن مثال على ذلك . إلى الغير أن التلميذ يعرف مستواه من خلال تقييم الأستاذ له ، وهذا ما يدل ويثبت أن الأنا عاجز عن معرفة مكانته وقيمته بنفسه ، لهذا فهو في حاجة إلى الغير الذي هو حسب سارتر الأنا الآخر الذي ليس أنا ، وأنا أعي ذاتي وأتعرف على نفسي من خلاله، فعندما أحس بأنني مختلف عن غيري فهنا أنا أعي ذاتي ، وهذا الوعي مصدره معرفتي لغيري وإلا فلن يتم هذا الوعي ، الشيء الذي يجعل الغير هو الوسيط وبين نفسي هو شعور لا يتحقق إلا من خلال حضور الغير في وعبي، ذلك أن هذا الشعور لا يمكن أن يتولد عن التأمل حيث يكون الفكر على صلة بنفسه فقط، إن الخجل في أصله خجل أمام شخص ما ، فإذا بدرت مني بادرة أو صدرت على حركة مبتذلة لم أشعر حيالها بشيء ولم ألم نفسي عليها طالما كنت وحدي، وإنما يختلف الأمر لو أدركت أن شخصا آخر قد المحلي ، عندئذ يتصاعد الدم إلى وجنتي ويتقصد جبيلي عرقا باردا فلا بد إذن من وجود الغير كواسطة بيني وبين نفسي لأنني أخجل من نفسي كما تبدو لغيري وأنا أتعرف على نفسي كما يراها الغير ، فالحجل إذن تعرف وهو خجل من نفسي أمام الغير هكذا أجدني في حاجة إلى الغير كما ) ادرك كل ما ا في في وجودي من مقومات، وهاهنا يحيلني الوجود لذاته إلى الوجود للغير وهما شكلان لا ينفصلان من الوجود ولا ينفكان عن الإحالة إلى بعضهما، فإذا أردنا أن نفهم أحدهما كان لابد من الإشارة إلى الآخر.
إذن فمعرفة الذات في نظر سارتر مشروطة بمعرفة الغير ووجوده ، وهذا ما يثبت أن العلاقة بين الذات والآخر علاقة تشينية صراعية كل واحد يشيئ الآخر ، هذه العلاقة المتوترة بين الطرفين تطرح إشكالا اجتماعيا وأزمة تواصل مع الآخر الغير إنساني ما دام موضوعا فاقدا لما هو إنساني، لذا يصبح في تصور سارتر مصدر خطر ما دام وجوده يعني لحظة النفي الأول للذات وجحيما يقول سارتر :" الجحيم هم الآخرون " التعامل مع الغير والاتجاه إليه.
محاولة حل المشكلة : الأطروحة الأولى :
معرفة الذات تتوقف على وجود الغير باعتباره الطرف المقابل الموجود خارجا عنا ، وهذا ما يثبت أن وجود الوعي غير كاف لمعرفة الذات وإثبات وجودها ، ذلك أن المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد والتفاعل الذي الضروري بيني أنا وبين نفسي لهذا اعتبر سارتر أنا الوعي بالذات لا يتحقق بحدس مباشر كما ادعى ذلك ديكارت ، بل يتحقق عبر الغير ومن خلاله لكن التساؤل المطروح هنا هو كيف يكون الغير وسيطا بيني وبين نفسي؟
يشرح سارتر وجهة نظره هذه من خلال مفهوم " نظرة الآخر " بقوله : إن نظرة الغير لي تجمدني وتحولني إلى مجرد شيء، ففي اللحظة التي أقع فيها تحت رقابة الغير الحط إلى مرتبة الأشياء ، ذلك ان هذه النظرة تجمد إمكانياتي وتسلبني حريتي ، وتقتل عفويتي وقدرتي على الفعل والمبادرة، وأكبر تشاهد على ذلك هو الخجل فهذا الشعور الذي يتحقق في داخلي وبيني عبارة عن فعل بارد تغيب فيه الإنسانية والإحساس بالتعاطف، وعليه يصبح الهدف من هذه العلاقة هو معرفة الآخر وليس التعرف والتعارف معه ما دام هذا الأخير غير مؤهل لإقامة علاقة و فعل تواصلي حقيقي مع الذات كونه موضوعا فاقد للإرادة والحرية.
هذه النظرة التي أكد عليها سارتر نجدها مجسدة في تصور هيجل الذي أكد بأن الآخر ضروري لوجود الذات ما دام الإنسان يعيش في علاقة معه أكثر ما يعيش في فرديته الخاصة ، فالوعي حسب هيجل هو وعي شقي يتطور وينمو من أجل بلوغ مرحلة الاكتمال بطريقة جدلية ، ففي البدء ينحصر إدراك الإنسان لذاته في الإحساس المباشر ما دام غارقا ومنغمسا في الحياة العضوية ، حيث يحيا بشكل حيواني من خلال غرائزه و مهمته تنحصر في الحفاظ على حياته الجسدية ، في هذه المرحلة تكون علاقته بالوجود والطبيعة علاقة مباشرة وحسية حيث يلغى كل ما هو مغاير له ولا يعترف إلا بحقيقته كذات في حين الآخر هو كذلك يملك حقيقته كذات ، وبعد مرحلة الإحساس المباشر يعمل الإنسان على تجاوز هذا الوجود الحسي حين تنتصر رغبته الإنسانية على رغبته الحيوانية ، وهو ما يعني أن تصب رغبات الذات على رغبات ذات آخر وليس على شيء طبيعي ، هذا الوضع يولد صراعا مع الآخر من أجل إشباع الرغبة ، وهو صراع من أجل الاعتراف على اعتبار أن تحقيق الوعي بالذات يعني نفي رغبة الآخر ما دامت الرغبة الإنسانية لا يمكن إشباعها إلا عن طريق النفي والقضاء على ما ليس أنا ، فالإنسان يتغذى على الرغبات " رغبات الآخرين " عكس الحيوان الذي يتغذى على الأشياء والإنسان لا يصبح كذلك إلا في حالة انتصار رغبته الإنسانية " الرغبة في السيادة " ، لذا تدخل الذات في صراع رغبات صراع حياة أو موت ، صراع من أجل الاعتراف ، هذا الصراع هو ما نتج عنه علاقة إنسانية ، علاقة السيد والعبد ، المنتصر والمخاطر بحياته الحيوانية يصبح سيدا ، أما العبد فيرغب في الحفاظ على حياته من داخل هذه العلاقة الصراعية ينشئ الوعي بالسيادة والوعي بالعبودية ، غير أن الموت الفعلي لا يحقق الاعتراف وإنما استسلام أحد الطرفين حين يفضل الحياة عن الموت ، هذا التصور الهيجلي مخالف للتصور العقلي " الديكارتي " الذي يؤسس وجود الذات على أساس المعرفة، حيث أن الإنسان العارف يبقى حبيس أو سجين الاطمئنان السلبي مادام يعي ذاته ويتمثل باقي الموجودات بشكل شفاف وفق عملية استدلالية تأملية. باعتبار أن تصور هيجل ينظر للإنسان على أنه كائن يتغذى على الرغبات ، وتحقيق الرغبة يدفعه إلى الخروج من حالة الاطمئنان السلبي إلى العمل لإشباع رغبته ، وإشباع الرغبات لا يتم إلا عن طريق النفي. إضافة إلى هذا كله نجد أن استقراء علاقة الإنسان بغيره يثبت ما للمجتمع من دور فعال في تنظيم نشاط الفرد وتربيته منذ الوهلة الأولى باعتباره المرأة التي يرى الفرد فيها نفسه ويدركها ، يقول واطسن " الطفل مجرد عجينة يصنع منها المجتمع ما يشاء ، وذلك من خلال الوسائل التي يوفرها ، فكلما كان الوسط الاجتماعي أرقى وأوسع كانت الذات أنمى وأكثر اكتمالا ، وعليه يمكن التمييز بين الأفراد من خلال البيئة التي يعيشون فيها ، فالفرد كما يقول دوركايم الانسان ابن بيئته ومرأة تعكس صورة مجتمعة ، فمن غير الممكن أن يتعرف على نفسه إلا من خلال اندماجه داخل المجتمع واحتكاكه بالغير.