115 مشاهدات
في تصنيف منوعات بواسطة (1.8مليون نقاط)
الوحدة الفنية في العمل الأدبي (الشعري)

تساءل بعض النقاد العرب في مطلع القرن العشرين عن توفر الوحدة العضوية في الشعر العربي الإحيائي الذي ترسم الشعر القديم وظنّ بعضهم أنها ليست من سماته فهي كما يعرفها الأدب الغربي (تناول غرضاً واحداً من الأغراضاً في القطعة الشعرية ، وترابط بين أجزائها على نحو يؤدي كل جزء إلى ما يليه بشكل وثيق ، ولا يمكن أن نحذف أو أن تقدم أو تؤخر في جزئياتها ، في وحدة متكاملة ومترابطة ، لا فضول فيها ولا خروج عن الهدف والغاية منها ) وهي على هذا النحو قادرة على التأثير في نفوس قرائها وأذهانهم . ولقد ذهب بعض من هؤلاء إلى أن الشعر القديم لم يعرف هذه الوحدة العضوية ، ويتضح أن هذا الرأي مبني على ملحوظة سريعة تحتاج إلى التاني لأسباب نعرضها فيما يلي :

1- إن الشعر العربي كما عرفنا ليس كله قصائد متعددة الأغراض ، بل فيه الكثير من الأعمال ذات الغرض الواحد الذي يعرضه علينا الشاعر بشكل مترابط ومتكامل بين أجزائه ، سواء في الجاهلية أو العصر الإسلامي والأموي أو العباسي. فلو طالعنا : انتاج النابغة مثلاً لرأيناه يقدم عدداً من القصائد التي لا تشتمل على المقدمات الطللية أو حديث الرحلة أو وصف الحيوان فمنها ما كان في الهجاء والوعيد ، ومنها دعوة إلى ترك الحرب والخصومة ، ومنها اعتذار وجهه إلى النعمان) ونحن هنا أمام أعمال شعرية واحدة الموضوع وموثقة الأركان ، ولو التفتنا إلى شاعر هو المتنبي لوجدنا ديوانه حافلاً بقصائد ذات غرض واحد من البيت الأول إلى آخرها ، وتتوزع المعاني ليؤدي كل منها دوره في ائتلاف وتسلسل وتكامل ، أي إن هذه القصيدة من القصائد تعبر عن وحدة في حالتها الانفعالية وفي توجهها وغايتها ، ومن ذلك قصيدته التي مطلعها :

عيد بأية حال عدت يا عيد * بما مضى أم بأمر فيك تجديد

وفيها تصوير حالة الشاعر النفسية وهو مثقل بالإحباط والهموم وخصومة كافور الإخشيدي بمصر وتمتد الأبيات لتعرض تجربة الشاعر بين الآمال والواقع الذي لم يحمل إليه ما بود.

وكذلك قصيدته التي مدح بها سيف الدولة الحمداني :

لكل امرىء من دهره ما تعودا * وعادات سيف الدولة الطعن في العدا

فهي تدور حول شخص الأمير وفعاله وشمائله، وإذا لا حظنا أبياته في وصف معركة مع البروم تدرك أنها تنضوي في إطار شجاعة الأمير القائد للمعركة وهكذا عندما نتأمل سائر أبيات القصيدة.

2- إن القصائد التي تتعدد -في الظاهر - أغراضها وخاصة ما يكون من مقدماتها الطللية أو وصف الناقة والحيوان لا تعبر عن التشتت والتوزع بلا رابط ، بل إن الشاعر العربي كان يعيش تجارب قحبة ومن ثم يتخذ هذا القالب الأدبي الفني وسيلة إلى التعبير عما في نفسه.

إن كثيراً من المقدمات تحول إلى رموز فنية ترتبط بالغرض الأساسي في تلك القصائد المتعددة الأغراض ، أي أن الشاعر يعمق موقفه وأحاسيسه بعدد من الأشكال تلتقي في جوهرها ، وهذا ما يدعوه بعض النقاد بالوحدة النفسية في القصيدة العربية القديمة ، وإنما تقول لقد أدرك هذه الجوانب علماء العربية وأدباؤها منذ القديم ، وأشاروا إلى الرمزية في وصف الناقة والرحلة والحيوان ، وإذا ما عدنا إلى واحدة من قصائد النابغة - وجدناه يتحدث في الدالية التي مطلعها :

یا دارمية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الأمد

عن معركة بين ثور الوحش وصياد وكلابه المدربة - و يسفر هذا اللقاء العنيف والدامي عن انتصار الثور وهرب الصياد وكلابه ، وبالتأمل ندرك أن النابغة اتخذ هذا رمزاً لعلاقته بخصومه الذين يرغب في القضاء عليهم لأنهم تسببوا في جفوة النعمان له مما يجعله يقدم قصائده الاعتذارية ( ومنها الدالية) . فههنا يتوافق الغرض الرئيسي الظاهر : الاعتذار مع هذا المشهد الذي قد يبدو شكلياً وخارجياً وكذلك وصفه لنهر الفرات والخطر الذي يحدق بمركب يمخر عبابه إنان السيل الذي جعله يتدفق وتصطحب أمواجه.

إن المتأمل المتأني للنتاج الشعري العربي القديم ولبعض ما حاكاه في أعمال الإحيائيين من الشعراء يوضح الصلة الوثيقة بين الأجزاء المختلفة في الظاهر خاصة عندما نعرف الأبعاد الرمزية في تلك القصائد.

ونضيف أن الجانب الأدبي يرتبط بتقاليد فنية يرتضيها الأدباء في إطار الثقافة والتراث وليس بالضرورة مضطراً إلى متابعة ما قد تعرفه الآداب التي تعرفها الثقافات الأخرى ، فهنا ذوق وطرق تعبيرية وليس جانباً علمياً فيه الصواب والخطأ ، ومع ذلك نقول : شعرنا القديم يشتمل على جوهر الترابط في وحدة نفسية وتصورية ، وقد نجد قصائد وأعمالاً لا يسهل إظهارالروابط بين أغراضها.

إن الشعر الغنائي - وهو أساس تراثنا الشعري وما تابعه في عصر النهضة والآماد اللاحقة ليس مطالباً بما يكون في الشعر المسرحي أو القصصي (الملحمي) بتفاصيله وجزئياته . إن لهذا الشعر الغنائي آفاقاً ملونة تعرف الوحدة أثراً ملتثم الأطراف قادراً على استجماع تجربة شعورية غنية.

يبقى أن نسمع رأياً لطه حسين الأديب العربي وهو يعجب من أولئك الذين لا يعرفون مواضع الوحدة العضوية في الأدب العربي : قال صاحبي : أنت تعلم ما يقوله الناس من أن أقبح عيب يمكن أن تؤخذ به القصيدة العربية في الشعر القديم خاصة هو : أنها ليست وحدة ملتئمة الأجزاء. وإنما تأتيها الوحدة من القافية والوزن ... الله بوحدة القصيدة عند شعرائك القدماء . قلت : صنع الله فأجبني ما صنع بها خير ما صنعه.

وإن تفكك القصيدة العربية واقتصار وحدتها على الوزن والقافية دون المعنى أسطورة من هذه الأساطير التي أنشأنها الافتتان بالأديب الأوربي الحديث والقصور عن تذوق الأدب العربي القديم.

1 إجابة واحدة

0 تصويتات
بواسطة (1.8مليون نقاط)
 
أفضل إجابة
الوحدة الفنية في العمل الأدبي (الشعري)؟

اسئلة متعلقة

مرحبًا بك إلى منصة انهض، حيث يمكنك طرح الأسئلة وانتظار الإجابة عليها من المستخدمين الآخرين.
...